د.هشام الشيشيني يكتب: الذكاء الاصطناعي مستقبل وطن
يعتبر الذكاء الاصطناعي هو أحد أهم الثورات التكنولوجية في العالم، وهو ليس خيالا علميا كما يظهر في الكثير من الأفلام، بل يتفق معظم الخبراء على أنه سيكون له تأثير عميق على تنافسية المؤسسات والأوطان في المستقبل القريب، ومن المنتظر أن يلعب الذكاء الاصطناعي دور متنامي في مستقبل الأعمال والاقتصاد في معظم الدول، فمن المتوقع أن تضيف التكنولوجيات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي ما يقرب من 15 تريليون دولار الى السوق العالمية بحلول عام 2030.
هناك تعريفات عديدة لمصطلح الذكاء الاصطناعي وأبسطها هو: التكنولوجيات التي لها القدرة على تأدية مهام تستدعي ذكاء مشابه لبعض الذكاء الانساني. وقد تكون هذه التكنولوجيات في شكل برامج وأنظمة حاسب أو تكون تكنولوجيات مدمجة في أدوات أو آلات معقدة مثل الروبوتات وآلات مصانع عالية التقنية. والذكاء الاصطناعي عادة ما بكون محدود في مجالات معينة، وهذا النوع وصل لدرجة عالية من التطور وله الآن تطبيقات عملية عديدة مستخدمة بالفعل في الكثير من المجالات مثل التعرف الآلي على الوجوه والتعرف الآلي على الكلام المنطوق، وهو مجال مقالنا الحالي، أما ما يعرف بالذكاء الاصطناعي العام والذي يحاول محاكاة الذكاء البشري على وجه العموم، فهو ما زال في طور البحوث والتطوير ولم يصل بعد لمرحلة النضوج التطبيقي.
ومن المهم أن يكون لمصر دور في استخدام وتطوير وتوطين تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي وألا نكتفي بالمشاهدة والمراقبة فقط والا ستكون الفجوة بيننا وبين الدول التي ستأخذ بهذا الطريق يصعب تخطيها. وللذكاء الاصطناعي طرق وأدوات عديدة من أهمها تقنية التعلم الآلي للبرامج Machine Learning وخاصة التعلم الآلي العميق Deep Learning الذي أدى الى طفرة في النتائج المحققة من بعض تطبيقات الذكاء الاصطناعي تفوق في دقتها النتائج التي يمكن الحصول عليها من البشر،
مثل التعرف على الوجوه آليا. وتعتمد تطبيقات الذكاء الأصطناعيي على توافر كم كبير من البيانات حتى يمكن الحصول على نتائج مرضية.
وجدير بالذكر أن هناك استخدامات للذكاء الاصطناعي متوفرة في حياتنا اليومية مثل المساعد الشخصي SIRI في تليفونات ايفون المحمولة والترجمة االآلية في محرك البحث لجوجل، ولكن يمكن للذكاء الاصطناعي أن ياعب دور أكثر عمقا في تطور البلاد اقتصاديا واجتماعيا.
والسؤال هنا هو كيف يمكن لمصر أن تستفيد من هذه الطفرة التكنولوجية أو ما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه الذكاء الاصطناعي في تقدم وتطور الأعمال والأقتصاد في مصر وهو ما سنحاول الأجابة عليه في هذا المقال.
قد تكون التطبيقات المتقدمة للذكاء الاصطناعي في مجالات الطب والهندسة وتطبيقات التصنيع عالية التقنية تحتاج لاعداد خاص للمهارات وبنية الأعمال في مصر، مما قد يستغرق بعض الوقت، ولكن يمكن البدء في هذا الاعداد من الآن حتى يمكن الاستفادة من هذه التطبيقات في أقرب وقت. ولكن هناك فرص واعدة متعلقة بتطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجال الخدمات العامة الرقمية يمكن أن تستفيد بها مصر من الآن. ويمكن لهذه التطبيقات تحقيق تحسن كبير في هذه الخدمات وتوفيرها بطريقة دقيقة وسريعة وبأسلوب متميز يشمل خواص جديدة لم يمكن اتاحتها من قبل. وتحتاج تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجال الخدمات الحكومية الرقمية لتوفر قواعد بيانات كبيرة مركزية وهي متوفرة في مصر في مجالات بطاقات التموين والتأمينات والمعاشات والمرور والتأمين الصحي والسجل التجاري والعيني والصناعي ومستهلكي الكهرباء والغاز والمياه والضرائب والجوازات والأحوال المدنية والداخلية وان كان يلزم العمل على الربط بين هذه القواعد وبعضها لنحصل على الفائدة المرجوة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجال الخدمات الحكومية العامة. وهذه التطبيقات تسمح على سبيل المثال باكتشاف محاولات الاحتيال في الطلبات المقدمة لمصروفات متعلقة بالتأمين الصحي أو استحقاق الدعم التمويني أو صرف المبالغ المخصصة لبرامج التضامن الأجتماعي. فتطبيقات الذكاء الأصطناعي هذه يمكنها فحص اعداد هائلة من هذه الطلبات وتدقيقها عن طريق قواعد بيانات أخرى متعددة مرتبطة بها، مما يمكنها من اكتشاف حالات الاستحقاق من عدم االاستحقاق وكشف التحايل في الطلبات وتحديد الطلبات المشتبه بها وتحويلها الى الموظف المختص لفحصها مع بيان سبب الاشتباه مما يؤدي لدقة وسرعة في تقديم الخدمة ويجنب الموظفين فحص كل طلب مقدم، وبذلك تصبح العلاقة بين الموظفين والذكاء الاصطناعي علاقة تعاون مشترك بدلا من علاقة استبدال أو استغناء. فيمكن لهذه التطبيقات على سبيل المثال تحديد مستحقي الدعم عن طريق التدقيق في قواعد بياتات استهلاك الكهرباء والغاز والمعاشات والتأمينات والملكية بالشهر العقاري.
وهذه التطبيقات يمكن أن تبدأ عند مستوى بسيط من الذكاء يزداد مع الوقت باضافة خواص أكثر ذكاء تدريجيا.
ومن المقترح أن تكون مسئولية تقديم هذه الخدمات عن طريق جهاز خاص يمكنه توفير أجهزة حاسبات بالكفاءة المطلوبة وتزويدها بهذه التطبيقات وتطويرها وادارتها وتحديثها وربطها بقواعد البيانات المعنية مع توفير التدريب المناسب للعاملين في هذا الجهاز. ويمكن أن يكون هناك تعاون مع الشركات الناشئة للتحسين المستمر لهذه التطبيقات وتطويرها واستحداث تطبيقات جديدة، بعد توفير الدعم اللازم لهذه الشركات مما يمكن أن يكون بداية لصناعة وطنية في مجال تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
وجدير بالذكر أنه يجب التنسيق بين خطط وبرامج التحول الرقمي وانشاء قواعد البيانات القومية وتطبيقات الذكاء الأصطناعي في مجال الخدمات العامة الرقمية لضمان التوافقية بينهم.
أما في القطاع الخاص فهناك فرص واعدة للذكاء الاصطناعي يمكن أن تتوفر في المجالات الآتية:
- التسوق الالكتروني وما يرتبط به من تطبيقات للتعرف على اتجاهات المشترين وكيفية توجيه الاعلانات لهم.
- البنوك وخاصة ما يتعلق بالقروض وفحصها والجدارة الائتمانية والتعرف على الأنماط المرتبطة بتعثرها.
- مراكز الاتصالات والدعم الفني واستخدام تطبيقات للتعرف على أنماط الاستعلامات من المتصلين أو تكوين رؤية لأنواع المشاكل في المنتجات والخدمات المقدمة.
- تطبيقات انترنت الأشياء وتطوير النظم الداعمة لها.
وهناك فرص عديدة للتعاون بين الهيئات الحكومية والقطاع الخاص، على سبيل المثال في المجالات اللآتية:
- تطبيقات المدن الذكية وهي سوق واعدة واسعة يجب فتح مجال التعاون فيها بين وزارة الاسكان والهيئات التابعة لها وشركات القطاع الخاص والشركات العالمية.
- تطبيقات الأجهزة الّذكية والنظم الداعمة لها مثل عدادات الكهرباء الذكية والنظم الخاصة بتقليل الفاقد في شبكات نقل الكهرباء وتوزيعها.
- تطبيقات مرتبطة بالأمن العام مثل تحليل الصور المأخوذة بالكاميرات المثبتة في الشوارع والميادين، والنظم الذكية المرتبطة بها.
كما أن من المنتظرأن تكون هناك فرص عديدة في مصر في المستقبل لتطبيقات الذكاء الأصطناعي في التعليم و الصحة العامة.
ومما تقدم نرى مدى اتساع وتنوع وأهمية سوق ومجالات تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مصر ومدى النقلة النوعية التي يمكن أن تحدثها في مجال الأعمال والأقتصاد المصري.
لتحقيق هذه النقلة النوعية المنتظرة والاعداد لها، يجب أن يرتبط ذلك باعداد استراتيجية وطنية للذكاء الاصطناعي في مصر. وتحدد استراتيجية الذكاء الاصطناعي في بلد ما، كيفية الاعداد طويل المدى لتحقيق الاستفادة المثلى من الذكاء الاصطناعي من النواحي الأقتصادية والاجتماعية. وتحدد هذه الاستراتيجية ما يجب على الدولة أن تعد له في مجالات الخدمات العامة الرقمية و البحوث والتطوير والقدرة الاستيعابية والمهارات والتعليم والبيانات والبنية التحتية والأخلاقيات، حتى تتحقق الاستفادة المرجوة من الذكاء الاصطناعي.
ويعتبر عام 2018 بحق هو عام الاستراتيجيات للذكاء الاصطناعي، فقد وضعت استراتيجيات في هذه السنة لدول عديدة مثل كندا والصين وسنغفورة وكوريا الجنوبية وفنلندا وفرنسا واليابان والمكسيك وتحت مسميات اخرى في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا، ومن الدول العربية دولة الامارات العربية المتحدة كما بدأت تونس في الاعداد لوضع هذه الاستراتيجية.
وينبغي عند وضع استراتيجية للذكاء الاصطناعي في مصر أن تكون هناك رؤية لاستراتيجية الذكاء الأصطناعي للمنطقة العربية ككل لتحقيق تكامل للقدرات والموارد المطلوبة على المستوى العربي، كما يجب التفكير أيضا في استراتيجية أفريقية للذكاء الأصطناعي بالتعاون مع الدول الافريقية التي بدأت الاعداد للذكاء الاصطناعي مثل كينيا، حتى يتحقق لنا الريادة في هذا المجال. فعلى سبيل المثال هناك مبادرات للاتحاد الاوروبي للذكاء الاصطناعي بالرغم من وجود استراتيجيات للذكاء الاصطناعي للعديد من دول الاتحاد الاوروبي.
وجدير بالذكر أنه قد يكون مفيدا، قبل وضع استراتيجية للذكاء الاصطناعي، أن نبدأ بتطبيق أحد مؤشرات الجاهزية للذكاء الاصطناعي لقياس وضعنا الراهن. وتقيس مؤشرات الجاهزية هذه، الحالة الراهنة لبلد ما في مجال الخدمات العامة الرقمية وتقبل الأجهزة الحكومية للابتكار في هذا المجال ومدى ملائمة الاقتصاد وتوفر المهارات المطلوبة وحالة البنية التحتية الرقمية وتوفر البيانات الرقمية وجودتها.
وبناء على ما تقدم يتضح كيف أن الذكاء الاصطناعي سيؤثر على اقتصاديات الدول وتنافسيتها وسيشكل مستقبلها وقدرتها على مواكبة التطور العالمي في العصر القادم، وينبغي على مصر بالتعاون مع الدول العربية والافريقية أن تبدأ على الفور في الاعداد الجيد لهذا العصر والاشتراك فيه، حتى لا يفوتنا عصر الذكاء الاصطناعي القادم لا محالة.
بقلم د.هشام الشيشيني
خبير تكنولوجيا المعلومات
helshishiny134@gmail.com