حسن السكري يكتب لـICTBUSINESS : ما بعد Cairo ICT.. خارطة طريق “تنفيذية” للذكاء الاصطناعي.. رؤية من “غرفة المحركات”
الآن، وقد هدأت الأضواء في مركز مصر للمعارض الدولية ، وطُويت صفحات نسخة استثنائية من Cairo ICT، يحق لنا أن نرفع القبعة تقديراً لكل القائمين على هذا الحدث. لقد نجح المعرض باقتدار في نقل صناعة الـ AI من خانة “الرفاهية التقنية” إلى قلب الحوار الاستراتيجي والاقتصادي للمنطقة. الطاقة التي رأيناها في القاعات، ونضج المناقشات، تؤكد أن الـ Ecosystem المصري جاهز للانطلاق.
ولكن، بصفتي متخصصاً قضى سنواته في “غرفة المحركات”—بين كابلات البنية التحتية، وأنظمة المستشفيات، ومعارك الأمن السيبراني—أعلم جيداً أن هناك فجوة لا يستهان بها بين بريق الـ “Demo” في المؤتمرات، وواقع الـ “Production Environment” عند التنفيذ الميداني.
توطين الذكاء الاصطناعي في مصر ليس مجرد “تحديث برمجي”؛ إنه مشروع “هندسة مجتمعية”. وللنجاح فيه، علينا مواجهة 5 تحديات هيكلية بعين فاحصة:
1. معضلة “البيانات الصامتة” (The Silent Data)
العالم يردد “البيانات هي النفط الجديد”، لكن نفطنا مختلط بطبيعة اقتصادنا الخاصة. نماذج الـ AI العالمية تتدرب على البصمة الرقمية الرسمية. في مصر، جزء ضخم من النشاط الاقتصادي يحدث في “الظل الرقمي” (الاقتصاد غير الرسمي والكاش).
التحدي: إذا اعتمدنا فقط على البيانات البنكية والضريبية، سننتج نماذج “عمياء” لا ترى حجم السوق الحقيقي. نحن بحاجة لبناء Hybrid Models ذكية قادرة على استيعاب مدخلات الاقتصاد غير الرسمي لتقديم قراءة واقعية للسوق.
2. البنية التحتية: “الاستقرار” قبل “السرعة”
نحتفل دائماً بسرعات الإنترنت، لكن العدو الحقيقي للـ AI في التطبيقات الحرجة (مثل الصحة والصناعة) هو “زمن الاستجابة” (Latency) و توفير الطاقه اللازمه و الاستقرار الحراري لمعالجات الذكاء الاصطناعي .
التحدي هو ان معالجات الذكاء الاصطناعي تولد حرارة هائله وتحتاج طاقه و تصميم قوي من البطاريات التبريد المائي، التحدي ليس في الـ Cloud المركزية، بل في الـ Edge Infrastructure. هل غرف السيرفرات في المؤسسات بالأقاليم مجهزة بتيار كهربائي مستقر وتبريد يمنع الـ Thermal Throttling؟ الـ AI لا يعمل في الفراغ، بل يحتاج لبيئة فيزيائية مستقرة تماماً كحاجته للكود البرمجي.
3. الفجوة الدلالية (Semantic Gap) في لغة الأعمال
الذكاء الاصطناعي الحالي يفهم “اللغة”، لكنه قد لا يفهم “الثقافة”. بيئة الأعمال المصرية تتسم بأنها High Context Culture؛ حيث تعتمد العقود والاتفاقات على “العلاقات” والمرونة أكثر من النصوص الجامدة.
التحدي: عندما يقوم نظام ذكي بإدارة مشروع، قد يفسر تأخير المورّد كـ “فشل ذريع” بناءً على المعايير الغربيةلل ERP المستخدم، بينما هو في العرف المحلي “أمر اعتيادي” يُحل بمكالمة هاتفية. نحتاج لتطوير Contextual AI يفهم “منطق السوق المصري” (Local Business Logic) لتجنب قرارات قد تضر بالعلاقات التجارية.
4. صراع الأتمتة والمسؤولية القانونية
التكنولوجيا تهدف لتسريع القرار، بينما الإجراءات البيروقراطية تهدف لـ “تأمين المسؤولية”.
التحدي: واجهنا مواقف تتوقف فيها أنظمة طبية عبقرية لأن بروتوكول المسؤولية (Liability Protocol) يشترط “توقيعاً حياً” وختماً من موظف بشري. المعركة القادمة ليست تقنية، بل هي Process Re-engineering. يجب صياغة أطر قانونية تمنح الغطاء التشريعي للقرارات المعتمدة على البيانات، وإلا سيظل الـ AI مجرد “مستشار” بلا صلاحية.
5. السيادة الرقمية وفن “تصنيف البيانات”
الهاجس الأكبر للمؤسسات هو الموازنة بين حماية البيانات السيادية والاستفادة من قدرات السحابة العالمية (Global Cloud).
الحل: الحل لا يكمن في الانغلاق التام، بل في الاستثمار في تقنيات “تصنيف وتعقيم البيانات” (Data Sanitization). نحتاج لبناء طبقات وسيطة (Middleware) تقوم بفرز البيانات؛ فتبقي ما هو “شخصي/حساس” محلياً، وترسل ما هو “تشغيلي” للمعالجة السحابية. هذه “الحوكمة الذكية” هي مفتاح الأمان.
ختاماً: حينما تتحدث الـ Python لغة “المؤسسات”
ما لمسناه في أروقة المعرض يؤكد أن وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات (MCIT) نجحت في تمهيد “البنية التحتية” و”التشريعية” ببراعة، لتخلق بيئة خصبة للنمو لم تشهدها مصر من قبل والآن، الكرة في ملعبنا نحن المتخصصين. المعادلة القادمة لا تعتمد على المفاضلة بين “المبرمج” و”المهندس”، بل تعتمد على التكامل.
نحن بحاجة إلى “المبرمج المعماري” (The Architect-Developer)؛ ذلك المحترف الذي يمتلك براعة كتابة أكواد Python المتطورة، ولكنه يمتلك في الوقت ذاته الرؤية الشاملة لـ Solution Architect، لضمان أن هذا الكود العبقري يمكنه العمل والنمو داخل أروقة المؤسسات التي يحكمها “ختم النسر”.
النجاح الحقيقي في 2026 سيكون حليف من يستطيع ردم الفجوة بين “مرونة البرمجيات” و”ثبات القوانين”، ليتحول الذكاء الاصطناعي من مجرد “كود” على الشاشة إلى “حل” يلمسه المواطن في الشارع.
بقلم / م.حسن السكري
خبير في هندسة النظم والبنية التحتية











