يساور البعضَ شيءٌ من القلق بشأن مستقبل يرون أن الأتمتة فيه قد تضع حياتنا على الهامش، ولكن يغيب عن بال هؤلاء أننا نعيش اليوم أصلًا في عالم مؤتمت إلى حدٍّ بعيد. فمتى كانت آخر مرة ذهب فيها أحدنا إلى فرع مصرفه لسحب مبلغ نقدي من أحد الصرافين العاملين هناك؟ وهل يرسل أي منا رسائل مكتوبة بخط اليد إلى أصدقائه أو أفراد عائلته حول العالم؟ ومن الذي يسافر إلى مقصده ليتجول بحثًا عن فندق مناسب قد يحتوي على غرفة شاغرة للمبيت؟ لقد لامست الأتمتة كل هذه الجوانب من حياتنا وأحدثت فيها تغييرًا كبيرًا بطرق لم يكن من الممكن تصوّرها قبل بضعة عقود.
لقد وضع إليشا غريفز أوتيس، مخترع المصعد الكهربائي، الأتمتة أمام أعين الجمهور لأول مرة في العام 1857، عندما أنتج أول مصعد تجاري للاستخدام العام جمع البشر والآلات في عملية نقل منسقة للصعود والهبوط والتوقف بين نقاط محددة بين أدوار المباني بطريقة مرسومة. وبالتالي، يمكن القول إن مفهوم الأتمتة ليس جديدًا وإنما قد نما تعقيدًا وانتشارًا، وقادنا إلى عالم يساهم فيه الذكاء الاصطناعي في كتابة مقالات إخبارية ونصوص سينمائية للأفلام، وتوجيه أداء المهام المادية في ظروف غير بشرية، ومساعدة البشر على رفع الإنجاز إلى مستويات غير متوقعة.
على أن الأتمتة سوف تمسّ حياتنا بطرق أوضح في المستقبل. فقد وجدت دراسة حديثة أجرتها “دل تكنولوجيز” أن 83 بالمئة من قادة الأعمال من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات يتوقعون أن يعيدوا، من خلال الأتمتة، بناء الطريقة التي يقضون بها أوقاتهم. تخيلوا إمكانية تحقيق إمكانيات ونجاحات تجارية عن طريق تفريغ المسؤولين في الشركات أنفسهم وتخصيصهم بعض وقتهم للتخطيط وبناء المهارات والعلاقات. لذلك تشكل الدعوة إلى مباشرة العمل ضمن هذا التوجه خطوة طبيعية، ولكننا بالفعل قد باشرنا العمل وبدأنا نمضي في طريقنا بهذه المسيرة، فكان أول ما أحدثنا فيه التغيير والتحوّل إجراءاتُ العمل وتجربةُ العملاء.
الثورة التقنية تقود التغيير الإيجابي في القطاعات
لنتخذ حالة القطاع المصرفي مثلًا في هذا السياق؛ فقد انتقلنا من أجهزة الصراف الآلي، التي تُعد الوجه متعدّد الأغراض والمواقع للبنك، إلى الخدمات المصرفية عبر الإنترنت، حتى استقررنا في هذه المرحلة عند تطبيقات الهاتف المحمول. وإذا اتصل أحدنا هذه الأيام بالبنك الذي يتعامل معه، فمن المحتمل أن يقوده نظام قائم على الذكاء الاصطناعي عبر أكثر المعاملات وطلبات المعلومات شيوعًا، ولن ينقله إلى الدعم البشري إلاّ إذا كانت لديه طلبات معقدة أو غير اعتيادية.
كذلك نرى المفهوم نفسه في قطاع الرعاية الصحية؛ فقبل بضع سنوات فقط، كان الحماس كبيرًا تجاه التطبيب عن بُعد، إن ضمن اتساع مدى الاتصال وزيادة سرعته تقديم الأطباء في المدن العلاج للمرضى في المناطق الريفية عبر الفيديو عالي الدقة، وتزويد فرق الرعاية الصحية المحلية بالوصفات الطبية وإرشادات العلاج. أما اليوم فبات بإمكان مؤسسات الرعاية الصحية، بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي، أن تصل المريض بالطبيب المناسب، وحتى أتمتة بعض إجراءات التشخيص الأساسية، لكيلا يتمّ استدعاء الطبيب إلاّ عند الحالات الحرجة.
تمكين قوى العمل المستقبلية
لم نأتِ بالآلات وبأنظمة الذكاء الاصطناعي لتأخذ وظائفنا؛ فمهمتها تتمثل في مساعدتنا على رفع قدراتنا الأدائية، لذلك أشعر بالحماس لظهور حلول “أتمتة العمليات الآلية”، التي تعمل على أتمتة المهام المتكررة وتفرغ البشر من أجل إبقاء تركيزهم منصبًّا على أداء مهام وبذل جهود ذات قيمة أكبر. وتزيل هذه الحلول الرتابة من العمل اليومي على نحو فعال، وهو مطلب قديم نشأ مع بدء ظهور بيئات العمل الرسمية.
كذلك يعمل هذا الأمر على التهيئة لما تطلق عليه “دل تكنولوجيز” اسم “الواقع الشبكي” للمستقبل، حيث يصبح الاتصال الدائم بالفضاء الإلكتروني غطاءً يغلّف واقعنا الحالي، وتصبح معه التجارب المعيشية والمهنية أكثر غمرًا لحياتنا، وأكثر تعزيزًا للكفاءة. ويشبه هذا الانتقال تطور الغمر الذي شهدناه يصيب تقنيات العرض في حياتنا؛ بدءًا من أجهزة التلفزيون الثابتة، ومرورًا بأجهزة الحاسوب سريعة الاستجابة، ووصولًا إلى الهواتف الذكية التفاعلية.
ولنا أن نتصوّر مدى التأثير الذي يمكن أن تُحدِثه قوى العمل المستعدة والمزودة بالأدوات القوية، في تطوير تجربة العملاء. إذ تُتيح الحلول المؤتمتة والمصممة جيدًا في مجال التفاعل مع العملاء، حصول العملاء على المعلومات والإرشادات في الوقت المناسب وبالطريقة التي يختارونها، من دون أن يقتصر ذلك على ساعات العمل التي يوجد فيها الموظفون على رأس عملهم.
ونظرًا لأن هذه الحلول التفاعلية تعتمد في تصميمها على أخذ الحالات القياسية في الاعتبار، فمن السهل تطويرها عبر تضمين الحالات التي سيتمّ التنبيه فيها إلى الحاجة لتدخل بشري، بل إن هذا سيكون توقعًا دائمًا لدى العملاء في العام 2030، وفقًا لأبحاثنا، نظرًا لأن المدن الرقمية التي نعرفها اليوم ستصبح مُدنًا تفاعلية متجاوبة، تدعمها التحليلات المستمرة للبيانات بالذكاء الاصطناعي وتدير فيها كلًا من البنى التحتية وتجربة المواطَنة لدى كل فرد متصل.
لأجل هذا كله بتنا نسمع أن البيانات هي “النفط الجديد”، أو “الذهب الجديد”، أو المورد الجديد للثروة، ولكن من دون أية أسئلة تُطرح حول القيمة. وهنا يمكن القول إنه إذا كان الذكاء الاصطناعي مركبة فضائية، فإن البيانات هي وقودها بلا شكّ.
إن البصيرة المتعمقة التي نكتسبها من برمجيات تحليل البيانات المصممة بإتقان تمثّل الجوهر الذي يضمن لأية استراتيجية أتمتة تستند على الذكاء الاصطناعي أن تتمتع بمستوى رفيع من الجودة وبقدر كبير من الأهمية وبإحداث التأثير المنشود عند تنفيذها.
تمهيد الطريق نحو المستقبل الرقمي
إن كل محادثة تدور حول المستخدم وحول تجربة العملاء لها علاقة بالتقنية الكامنة فيها، ولهذا يُعدّ الاستثمار في النماذج الأولى لحلول الأتمتة والمنظومات القائمة على الشراكة بين الإنسان والآلة، استراتيجية تجارية سليمة سواء من منظور الموظف أو العميل، وجمالها يكمن في أنها لا تهتمّ بتحديد المورد المناسب لأداء الوظيفة، بشريًا كان أم رقميًا، وإنما تتعلق بالإمكانيات الإضافية الهائلة مثل الذكاء الاصطناعي وتحليلات البيانات الضخمة التي يمكن أن تتيحها الآلة للإنسان، لتمكينه من الارتقاء بأدائه إلى مستوى شديد الرفعة.
إن التحول التقني ليس مقصدًا في حّد ذاته وإنما هو مسيرة متواصلة لا تنتهي أبدًا. بيدَ أن ثمّة ثلاثة أشياء تنبغي مراعاتها عند الشروع في مسيرة الشراكة بين الإنسان والآلة:
- تحديد المخرجات الاستراتيجية المنشودة؛ فهذه المسيرة لا تتعلق فقط بالبنية التحتية التقنية، ولكن مداها يشمل إيجاد الشريك المناسب للتشاور بشأن المخاطر المحتملة والخطوات المطلوب اتخاذها لنجاح التحوّل.
- إنشاء الإطار البُنيوي؛ المكونات التقنية وحدها لا تصنع الحل التقني، فتطابق البنية التحتية التقنية في شركتين مختلفتين، يمكن أن يخدم أغراضًا شديدة التباين. لذا فإن من الضروري أن نعي حقيقة كوننا لا نشتري حلاً، بل نُنشئ إطارًا لتشغيله.
- الاهتمام بالنمو الطبيعي: ستكون هناك في المراحل المبكرة خطوات خطأ ودروس مستفادة، ولكننا إذا تجاوزنا هذا سنجد أنه يمكن تكرار النماذج الناجحة في سياقات أخرى. وبمجرد تأسيس العقلية داخليًا، فإن الخطوة التالية ستتمثل في الهيمنة على السوق.
ما من شكّ في أن التقنية تغيّر الطرق التي نعمل بها ونعيش ونرفّه عن أنفسنا، وهذا الأمر سوف يصبح أكثر وضوحًا في المستقبل. إن علينا أن نكون متحمسين لقوة التقنية وإمكانياتها لتغيير حياة الناس للأفضل ومساعدتنا على تحقيق الكفاءة في طريقنا نحو الازدهار الشامل. لقد اتّخذت الشركات في جميع أنحاء العالم خطوات لتبني أحدث التقنيات الناشئة الواعدة وتكييفها في سبيل تأمين مستقبلها.
ثمّة في متناول أيدينا فصلٌ جديد في مسيرة التقدّم البشري القائم على التقنية، في انتظار أن نطلق العنان للإمكانيات التي ينطوي عليها.
بقلم / محمد أمين النائب الأول للرئيس لمنطقة الشرق الأوسط وروسيا وإفريقيا وتركيا في “دل تكنولوجيز”