فرض التطور الكبير الذي شهده العالم في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات واقعاً جديداً على صناعة البرمجيات في العالم العربي، حيث تبرز اليوم كواحدة من صناعات المستقبل وحجر الزاوية الذي تقوم عليه ركائز الثورة الرقمية، في ظل توجه العديد من الدول العربية نحو تبني التحول الذكي ودخول غمار المنافسة التكنولوجية عالمياً. ومع أن صناعة البرمجيات في المنطقة العربية قد ظهرت وازدهرت بشكل واضح في ثمانينيات القرن الماضي عبر شركات حققت نجاحاً كبيراً، مثل شركة “صخر” و”سعودي سوفت”، إلا أنّها تراجعت لاحقاً نتيجة أسباب أبرزها الافتقار إلى البنية التحتية الأساسية وانتشار القرصنة وعدم وجود قوانين واضحة لحماية الملكية الفكرية، بالإضافة إلى ضعف المناهج التعليمية التقليدية التي باتت عاجزة عن مواكبة احتياجات سوق العمل.
وفي الوقت الذي نجحت فيه العديد من الدول العربية في خلق فرص استثنائية للنهوض بقطاع البرمجيات وتحويله إلى رافد حيوي من روافد الاقتصاد الوطني ومساهم رئيسي في خلق وظائف المستقبل، لا تزال دول أخرى عاجزة عن مواكبة ركب التقدم التكنولوجي إقليمياً وعالمياً، خصوصاً في ظل عدم وجود بنية تحتية ولوجستية وتكنولوجية متقدمة قادرة على استيعاب متطلبات الثورة الرقمية وتلبية احتياجات الأعمال البرمجية. كما يمثل غياب الدعم الحكومي في العديد من الدول العربية أحد العوامل التي تعيق تقدم هذه الصناعة، والتي لا تزال تعاني من ضعف البنية القانونية والتشريعية التي تعجز عن مكافحة الاستخدام غير المرخص للبرمجيات وصون حقوق الملكية الفكرية. كما أن التعليم في غالبية الدول العربية يعد من أكبر التحديات التي تواجه تطور البرمجيات، حيث لا يزال غير قادر على إعداد أجيال جديدة لتولي وظائف المستقبل التي تتركّز بالدرجة الأولى حول البرمجة والبحث والتطوير والعلوم والتكنولوجيا والفضاء.
ومما لا شكّ فيه بأنّ هناك العديد من الحلول التي يمكن تبنّيها لتذليل العقبات وتوظيف الفرص المتاحة للنهوض بقطاع البرمجيات عربياً، ولعل مصر والإمارات والسعودية من الدول التي تمتلك بنية تحتية متينة ومجهزة بتقنيات متطورة جداً لصناعة البرمجيات، بالإضافة إلى الكفاءات والمهارات والإمكانيات والدعم الحكومي للاستثمار بالشكل الأمثل في الطاقات البشرية والعقول المبدعة ودعم المشاريع الناشئة ورواد الأعمال والمبتكرين والموهوبين في مجالات البرمجة والتكنولوجيا وغيرها.
ولعلّ أبرز الحلول الفاعلة في الوقت الراهن تتمثل في توفير التسهيلات المحفزة للمبرمجين لإطلاق مشاريع فعلية ترفد الاقتصادات الوطنية وتستقطب الكفاءات الوطنية المؤهلة لتطوير منتجات وحلول وتطبيقات عالية الجودة قادرة على المنافسة ضمن الأسواق الإقليمية والدولية. كما يجب تحديث البنية التحتية التقنية وتوسيع نطاق انتشار شبكة الإنترنت، بالإضافة إلى تحسين برامج التدريب والتمكين والارتقاء بالتعليم لسدّ الفجوة في المهارات الوطنية من حيث النوع والكم، وتوفير السبل الضامنة للشركات الناشئة والصغيرة والمتوسطة ضمن قطاع البرمجيات للنمو والتقدم والمنافسة عالمياً. ويبقى تطوير السياسات والتشريعات واللوائح التنظيمية حجر الأساس لخلق بيئة مناسبة للنهوض بهذه الصناعة التي تشهد تحولاً نحو نموذج البرمجيات القائمة على البيانات، ما يفتح فرصاً جديدة أمام الشركات، سواء المطورة أو المستخدمة للبرمجيات.
ونجحت مصر في بناء حضور قوي كقوة ناشئة في صناعة البرمجيات، الأمر الذي يُعزى إلى عوامل عدة أبرزها ارتفاع معدلات الإنفاق الحكومي على البرمجيات وخدمات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، إلى جانب المزايا التنافسية المتاحة على صعيد توافر المهارات الوطنية المؤهلة في المجالات البرمجية، حيث تعتبر مصر من أهم الدول العربية المصدرة للكفاءات في هذه الصناعة، وتشهد نمواً سريعاً في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات باعتبارها رافداً مهماً للاقتصاد الوطني، حيث بلغ الناتج المحلي الإجمالي للقطاع نحو 108 مليار جنيه مصري في العام 2019، مقابل 93 ملياراً في العام 2018، وبلغت نسبة مساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي في العام 2019 نحو 4.4%، مقارنة بنحو 4% في العام 2018. وتستهدف الوصول إلى أكثر من 8% خلال السنوات الثلاث المقبلة.
وتقود الإمارات والمملكة العربية السعودية مسيرة التطور التكنولوجي والصناعة البرمجية في دول الخليج العربي، حيث تستحوذ البرمجيات على اهتمام بالغ في إطار الخطط الحكومية التي تضع تحفيز الابتكار والإبداع ودعم الشركات الناشئة ودمج تقنيات الذكاء الاصطناعي ضمن القطاعات الحيوية في مقدمة الأولويات الاستراتيجية، بالإضافة إلى تبني نموذج المدن الذكية والبيانات الضخمة، مستقطبةً كبرى الشركات العالمية في مجال البرمجيات من أجل دعم هذه الصناعة، في ظل توافر البيئة القانونية والتشريعية التي تضمن مكافحة الاستخدام غير المرخص للبرمجيات وتصون حقوق الملكية الفكرية، حيث يصل حجم قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في الإمارات إلى 62.4 مليار درهم، أي ما يعادل 17 مليار دولار، ويتجاوز حجم سوق تقنية المعلومات والتقنيات الناشئة في السعودية 45 مليار ريال، أي ما يعادل 12.1 مليار دولار.
وبالمقابل، حققت الأردن نقلة نوعية على صعيد زيادة الإيرادات الوطنية الناجمة عن قطاع البرمجيات والتطبيقات الإلكترونية والنقالة، والذي احتل في العام 2018 المرتبة الأولى ضمن القطاعات الفرعية الأكثر إيراداً ضمن قطاع تكنولوجيا المعلومات والخدمات ذات الصلة. وعلى الرغم من وجود الكثير من قصص النجاح العربية في عالم البرمجيات، لا تزال دول عدة، مثل لبنان وسوريا والسودان، بحاجة ماسة إلى اتخاذ خطوات فعلية للحاق بركب التطور التكنولوجي، وهو ما لا يمكن أن يتحقق دون إحداث تغيير جذري وإيجابي في البنية التحتية والقانونية والتشريعية، وتوجيه الطاقات الوطنية والمهارات البشرية بالشكل الأمثل في خدمة مسيرة تنمية قطاع البرمجيات والتطبيقات ذات الصلة.
ومما لا شك فيه أن الدور الهام الذي تلعبه صناعة البرمجيات في جميع مجالات الحياة يحتم زيادة الاهتمام بها في العالم العربي، من خلال سن القوانين والتشريعات الملائمة للنمو والازدهار واللوائح التنظيمية الضامنة للملكية الفكرية، حيث تساهم هذه الصناعة بشكل أساسي في ثورة المعلومات والاتصالات والثورة الصناعية الرابعة، وتستثمر دول العالم في صناعة البرمجيات باعتبارها داعماً مهماً للاقتصادات الوطنية. ويبقى وضع مواصفات ومقاييس موحدة لتطوير البرمجيات خطوة متقدمة على درب النهوض بالبرمجيات في العالم العربي، في حين أن تعريب المناهج التعليمية يعتبر الخطوة الأهم في الوقت الراهن لإثراء المحتوى المعرفي الذي يؤهل الجيل الشاب ليكون قوة محركة لنمو صناعة البرمجيات في المستقبل.
بقلم / نضال أبوزكي، مدير عام مجموعة أورينت بلانيت