في مقال سابق نشر بعدد مارس من مجلة ICTBusiness استعرضنا طبيعة وماهية الذكاء الاصطناعي وأهم تكنولوجياته وتطبيقاته وتأثيراته العميقة المنتظرة على الاقتصاد والصناعة والخدمات العامة وسوق العمل والمجالات المحتملة للاستفادة منه بمصر، وفي نهاية المقال أوضحنا ضرورة وضع استراتيجية وطنية للذكاء الاصطناعي حتى لا تفوتنا الفرص الهائلة التي سيتيحها.
وفي هذا المقال نستعرض ونناقش بشيء من التفصيل ما تقوم به العديد من الدول من وضع استراتيجيات وطنية للذكاء الاصطناعي تلائم ظروف اقتصادها ومجتمعاتها، ونستخلص منها توجهات وارشادات قد تساعد على اعداد استراتيجية وطنية للذكاء الاصطناعي ملائمة لمصر.
وقد اظهرت دراسة حديثة لماكنزي أنالذكاء الاصطناعي سيمكن عالميا أنشطة اقتصادية اضافية قيمتها ثلاث عشرة تريليون دولار بحلول عام 2030 . وقد استجابت العديد من حكومات الدول للفرص الغير مسبوقة التي من المنتظر أن يتيحها الذكاء الاصطناعي باعداد استراتيجيات وطنية له لتقود النمو والتنافسية في عالم من المنتظر أن يتمحور حول الذكاء الاصطناعي.
نبدأ أولا بتعريف عام للمقصود من استراتيجية الذكاء الاصطناعي: وهي مجموعة من السياسات الحكومية المرتبطة ببعضها ارتباطا وثيقا والتي لها هدف واضح وهو تعظيم الفوائد المحتملة من الذكاء الاصطناعي بأقل تكلفة ممكنة على الاقتصاد والمجتمع ككل.
حتى نهاية 2018 تم الاعلان عن ثمانية عشر استراتيجية وطنية للذكاء الاصطناعي لدول هي: كندا، استراليا، سنغفورة، دنمارك، تيوان، فرنسا، الاتحاد الأوروبي، المملكة المتحدة، كوريا الجنوبية، اليابان، الصين، الامارات المتحدة، فنلندا، ايطاليا، السويد، الهند، المكسيك وألمانيا. ومن المنتظر الاعلان عن عدد آخر خلال 2019. والاستراتيجيات المعلنة حاليا يمكن تصنيفها الي مجموعتين رئيسيتين، المجموعة الأولى تتكون من استراتيجيات تحتوي على أهداف وسياسات محددة وتوفر التمويل اللازم لها. أما المجموعة الثانية فهي بمثابة وثائق تحتوي على ارشادات عامة غير ممولة تستعرض بعض الاهداف والتوصيات التي يمكن أن يسترشد بها متخذي القرار في المستقبل.
الاستراتيجيات الوطنية للذكاء الاصطناعي يجب أن يكون توجهها هو تطوير بيئة أعمال قوية للذكاء الاصطناعي تعتمد على التنسيق الدقيق والتعاون بين العلوم والاقتصاد والمجتمع والسياسة. ونقطة البداية في تطوير هذه الاستراتيجية هي الفهم الواضح لما يعنيه مصطلح الذكاء الاصطناعي وخاصة تحديد ماهي مجالات البحوث والتطبيقات التي يمكن أن تندرج تحت هذا المصطلح ويمكن أعتبارها جزء من هذه الاستراتيجية. وقد يكون مفيدا، قبل وضع استراتيجية للذكاء الاصطناعي، أن نبدأ بتطبيق أحد مؤشرات الجاهزية للذكاء الاصطناعي لقياس وضعنا الراهن. وتقيس مؤشرات الجاهزية هذه، الحالة الراهنة لبلد ما في مجال الخدمات العامة الرقمية وتقبل الأجهزة الحكومية للابتكار في هذا المجال ومدى ملائمة الاقتصاد وتوفر المهارات المطلوبة وحالة البنية التحتية الرقمية وتوفر البيانات الرقمية وجودتها، وذلك حتى تبدأ الاستراتيجية من الوضع الراهن لها في البلاد. وينبغي للاستراتيجية أن يكون لها أهداف وسياسات واضحة مرتبطة بمؤشرات متفق عليها لقياس التقدم في تطبيق الاستراتيجية ومعايير للحكم على نجاحها. فالاستراتيجية يجب أن توضح بغير لبس ماهو ما نود تحقيقه من الذكاء الاصطناعي ومتى نود تحقيقه وكيف نقيس تقدمنا في تحقيقه، فالاستراتيجية ليست مجرد اعلان عن النوايابل يجب أن تتضمن مؤشرات لقياس المدخلات في هذه الاستراتيجية وهي الموارد المطلوبة لتحقيقها بالاضافة الى مؤشرات لقياس مخرجات الاستراتيجية وهي النتائج المنتظرة منها. وهذه المؤشرات بعضها كمي مثل التمويل اللازم للاستراتيجية، وبعضها كيفي مثل اللوائح والتشريعات لتيسير تنفيذ أهداف الاستراتيجية.
واستراتيجية الذكاء الاصطناعي يجب أن تكون قابلة للتأقلم والتعديل مع الجديد في تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي نظرا للديناميكية الشديدة التي تتميز بها هذه التكنولوجيات، لذلك فمن المهم المتابعة عن قرب لاتجاهات هذه التكنولوجيا والقدرة على التعرف على هذه الاتجاهات في الوقت الملائم.
تشتمل استراتيجيات الذكاء الاصطناعي التي تم الاعلان عنها حتى الآن على ثمانية أوجه من السياسات العامة والتي يجب أن تكون جزء من استراتيجية الذكاء الاصطناعي في مصر أيضا، وهي:
- البحث العلمي: ويشمل انشاء مراكز البحوث والكليات والأقسام والبرامج الجديدة المتخصصة في هذا المجال وتوفير التمويل الملائم لها وتشجيع الشراكات مع الجامعات العالمية ذات السمعة العالمية في تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي.
- تنمية المواهب: عن طريق تشجيع وتمويل مشروعات الذكاء الاصطناعي البحثية وانشاء درجات للماجستير والدكتوراه في هذاالمجال وتوفير البعثات للنابغين منهم في هذا المجال ودعوة العلماء المتخصصين العالميين لالقاء المحاضرات والاشراف المشترك على الرسائل العلمية.
- المهارات ومستقبل الأعمال: عن طريق تنمية المهارات الرقمية وتوفير التدريب والتعليم المستمر للخريجين الجدد والعاملين الراغبين في التدريب على تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي مع تقديم الحوافز لهم.
- التصنيع وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي: عن طريق تشجيع وتوفير حوافز لتبني أساليب الذكاء الاصطناعي في العديد من الصناعات وتمويل الصناعات الناشئة في هذا المجال وتوفير حضاتات أعمال والدعم الفني والتدريب اللازم لها.
- البيانات والبنية التحتية الرقمية: عن طريق تبني سياسة البيانات مفتوحة المصدر وتقوية البنية التحتية الرقمية وزيادة التغطية الجغرافية لها.
- الذكاء الاصطناعي لتحسين الأعمال الحكومية: بتبني الحكومات لتكنولوجيات وأساليب الذكاء الاصطناعي في الخدمات العامة والادارة الحكومية بغرض تحسين الخدمات وتيسيرها وزياة سرعة تنفيذها واكتشاف حالات الفساد.
- الاخلاقيات والمعايير: بانشاء المجالس واللجان المعنية بشفافية أساليب الذكاء الاصطناعي المستخدمة وتفسير عملها ومحاربة واكتشاف الانحراف والتمييز في الاستخدام.
- الاحتواء والصالح العام: بالتأكدمن أن الذكاء الاصطناعي يستخدم في تشجيع التنمية الاجتماعية الاحتوائية مثل استخدامه في مشروعات دعم ااتعليم العام والتضامن الاجتماعي.
وجدير بالذكر أن الكثير منالاستراتيجيات المعلنة مرتبطة بوضوح بمؤشرات لقياس المدخلات والمخرجات الكمية والكيفية الازمة لتحقيقها والمعايير اللازمة للحكم على تقدمها واكتمالها.
مما تقدم فانه من الملائم أن تحتوي استراتيجية الذكاء الاصطناعي في مصر على أهداف واضحة نسعى لتحقيقها خلال مدة زمنية متفق عليها مع تحديد التمويل اللازم لها خلال تلك الفترة والاتفاق على مؤشرات كمية وكيفية لقياس مدخلات ومخرجات هذه الاستراتيجية ومعايير واضحة للحكم على تقدمها وتحقيقها الأهداف المحددة لها.
ومن المفيد أن يكون هناك حوار مجتمعي حول استراتيجية الذكاء الاصطناعي في مصر مع الالتزام التام بالشفافية عند اعداد هذه الاستراتيجية، مع اشراك جهات وخبراء محاييدين في هذا الحوار حتى يمكن الالتزام بالموضوعية في تطوير هذه الاستراتيجية. ولعل هذه المقالة تكون خطوة نحو هذا الحوار المجتمعيوفتحا لباب المناقشة وابداء الرأي في هذا الموضوع الحيوي.
بقلم د.هشام الشيشيني
خبير تكنولوجيا المعلومات