مقالات

مصطفى ناصف يكتب: اللائحة التنفيذية لقانون حماية البيانات نقطة تحول لتنظيم الاقتصاد الرقمي

أصبحت حماية البيانات واحدة من أهم القضايا الاستراتيجية التي تشكّل ملامح الاقتصاد العالمي الحديث، الذي يقوده التحول الرقمي، وتتنافس فيه الدول على امتلاك المعرفة. ولم تعد البيانات مجرد معلومات متناثرة داخل الأنظمة، بل تحولت إلى أصل اقتصادي يوازي في قيمته الموارد الطبيعية، وإلى مورد سيادي تتنافس عليه الحكومات والشركات العملاقة، ومع تزايد الاعتماد على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والخدمات الرقمية، باتت حماية البيانات حجر الأساس لبناء الثقة، وضمان استدامة الأعمال، وتعزيز قدرة الدول على جذب الاستثمارات.

ويشهد العالم اليوم سباقًا محمومًا نحو وضع أطر تنظيمية صارمة لحماية البيانات، ليس فقط لحماية خصوصية الأفراد، بل لحماية الاقتصادات من المخاطر السيبرانية، ولضمان بيئة أعمال مستقرة يمكن للمستثمرين الاعتماد عليها. وقد أثبتت التجارب الدولية أن الدول التي تمتلك منظومة قوية لحوكمة البيانات هي الأكثر قدرة على المنافسة، والأكثر جذبًا للشركات العالمية، والأقدر على الاندماج في الاقتصاد الرقمي العابر للحدود.

ومع صدور اللائحة التنفيذية لقانون حماية البيانات الشخصية في مصر، تدخل الدولة مرحلة جديدة أكثر نضجًا ووضوحًا في إدارة أحد أهم أصول العصر الرقمي: البيانات.

أن هذه الخطوة تمثل نقطة تحول محورية في مسار الاقتصاد الرقمي المصري، وتفتح الباب أمام بيئة أكثر تنظيمًا وجاذبية للاستثمار ، كما أن  الحديث عن حماية البيانات لم يعد رفاهية تشريعية أو شأنًا تقنيًا يخص شركات التكنولوجيا فقط، بل أصبح عنصرًا جوهريًا في بناء الثقة داخل السوق، وفي تعزيز قدرة المؤسسات على المنافسة”.

ويعكس صدور اللائحة التنفيذية إدراك الدولة لأهمية البيانات باعتبارها أحد الأصول الاقتصادية التي لا تقل قيمة عن رأس المال أو الموارد البشرية.

فالقانون كان قائمًا منذ فترة، لكن غياب اللائحة التنفيذية خلق مساحة من الغموض وأجّل التطبيق الفعلي. ومع صدور اللائحة، أصبحت القواعد واضحة والمسؤوليات محددة، مما ينقل السوق من مرحلة “النية التشريعية” إلى مرحلة التطبيق العملي الملزم، وهو ما يضع المؤسسات أمام مسؤوليات واضحة لا تحتمل التأجيل.

وأوضح مصطفى ناصف أن البيانات أصبحت الوقود الجديد للاقتصاد الحديث، سواء في الخدمات المصرفية أو التجارة الإلكترونية أو التطبيقات الذكية أو حتى القطاعات التقليدية. ومع هذا الاعتماد المتزايد، تتضاعف المخاطر المرتبطة بسوء إدارة البيانات أو تسريبها، وهو ما يجعل حماية البيانات ضرورة لحماية الأسواق واستدامة الأعمال والحفاظ على سمعة الشركات.

وأضاف أن أي خلل في إدارة البيانات قد يؤدي إلى خسائر مالية مباشرة أو أضرار طويلة المدى يصعب إصلاحها، مما يجعل الالتزام باللائحة التنفيذية ليس مجرد التزام قانوني، بل ضرورة استراتيجية.

وبخصوص أهمية اللائحة التنفيذية، قال مصطفى ناصف: “جاءت اللائحة لتترجم نصوص القانون إلى آليات عملية قابلة للتطبيق، من خلال تحديد كيفية جمع البيانات ومعالجتها وتخزينها ومشاركتها، وتوضيح حقوق أصحاب البيانات والتزامات الشركات، ووضع أطر واضحة للرقابة والمساءلة”.

كما أن وجود معايير موحدة يقلل من الاجتهادات الفردية داخل المؤسسات، ويخلق بيئة تنظيمية مستقرة تشجع على النمو وجذب الاستثمارات، لأن الغموض التشريعي يعد من أكبر معوقات التطور في أي سوق.

وفيما يتعلق بالأثر على الاستثمار، أشار مصطفى ناصف إلى أن حماية البيانات أصبحت معيارًا أساسيًا لتقييم الأسواق عالميًا. فالمستثمرون اليوم لا يبحثون فقط عن العائد المالي، بل عن بيئة تنظيمية مستقرة تحمي الحقوق وتدعم الحوكمة.

ووجود إطار قانوني مفعل لحماية البيانات يعزز ثقة المستثمرين المحليين والأجانب، ويرسل رسالة واضحة بأن مصر تسير نحو تنظيم اقتصادها الرقمي وفق معايير عالمية. كما يسهم في تسهيل الشراكات العابرة للحدود وتقليل مخاطر الامتثال، ويدعم اندماج الشركات المصرية في سلاسل القيمة العالمية.

ومما لاشك فيه أن تجاهل متطلبات اللائحة التنفيذية يحمل مخاطر كبيرة، لا تقتصر على الغرامات أو المسؤولية القانونية، بل تمتد إلى فقدان ثقة العملاء والإضرار بالسمعة وتعطيل الأعمال”. مشيرا إلى أن كثيرًا من الشركات قد تقع في المخالفة دون قصد بسبب غياب السياسات أو عدم وضوح الأدوار أو الاعتماد على ممارسات قديمة، مؤكدًا أن المشكلة غالبًا ليست تقنية بل تنظيمية وإدارية في المقام الأول.

وفي إطار الحوكمة، فإن الامتثال لقانون حماية البيانات يجب أن يُنظر إليه كفرصة لتحسين إدارة المعلومات وتنظيم العمليات الداخلية وتعزيز ثقافة المساءلة، وليس كعبء إضافي، وأن تحديد المسؤوليات داخل المؤسسة ووضوح آليات إدارة البيانات يرفع من كفاءة العمل ويقلل المخاطر التشغيلية ويزيد جاهزية الشركات للنمو والتوسع، مؤكدا أن الشركات التي تبدأ مبكرًا في ترتيب أوضاعها ستكون في موقع تنافسي أفضل، خاصة في ظل تسارع التحول الرقمي.

وبخصوص دور الشركات الاستشارية، فإن المرحلة الحالية تتطلب دورًا محوريًا للشركات الاستشارية المتخصصة في الحوكمة وإدارة المخاطر، ليس فقط من خلال تقديم حلول تقنية، بل عبر بناء الوعي داخل المؤسسات وربط متطلبات حماية البيانات بالحوكمة المؤسسية الشاملة.

وشدد على أن الالتزام الحقيقي يبدأ بالفهم، ثم التقييم، ثم التطبيق التدريجي المدروس، محذرًا من التعامل الشكلي أو الاعتماد على مستندات غير مفعلة.

ومما لاشك فيه أن صدور اللائحة التنفيذية لقانون حماية البيانات يمثل علامة فارقة في مسار الاقتصاد المصري، ورسالة واضحة بأن مرحلة التنظيم الجاد قد بدأت، وأكد أن الشركات التي تتعامل مع هذه المرحلة بجدية واستباقية ستكسب ثقة السوق والعملاء والمستثمرين، بينما سيواجه المتأخرون مخاطر متزايدة في بيئة لم تعد تتسامح مع العشوائية.

 

بقلم :مصطفى ناصف

الخبير الدولي في المراجعة والحوكمة

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى